فضل طلب العلم

. . ليست هناك تعليقات:

فأشرف ما تُقضى فيه الأعمار، وتُبذل فيه الأموال، وتُستفرَغ فيه الجهود والأوقات - طلبُ العلم، لا سيما علوم الشريعة الإسلامية، وفضل طلب العلم في الإسلام لا يخفى على أحد، وكفى بالعلم شرفًا أن الله تسمَّى بالعليم، واتصف بالعلم في كتابه، فقال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [المائدة: 76]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء: 11].

وكانت الرسالة الأولى من الله للإنسان في هذه الرسالة الخاتمة: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ [العلق: 1]؛ ولذا كان العلم يسبق العمل، بل ويسبق الإيمان؛ قال تعالى: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد: 19].

ولذا سمَّى القرآن الفترة التي سبقت الإسلام بالجاهلية، فقال تعالى: ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة: 50].

ولم تبدأ قضية العلم مع الإنسان منذ الوجود الإسلامي فحسب، ولكنها بدأت مع الإنسان منذ وجوده! قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة: 30 - 33].

ولذا لم يكن من المبالغة أن الدنيا لا قيمة لها - في نظر الإسلام - بدون العلم، بل وملعونة بما فيها، فعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ((ألَا إن الدنيا ملعونة، ملعونٌ ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، وعالم أو متعلِّم))[1].

وبناء عليه؛ فالحياة بدون العلم مستحيلة، واختفاء العلم يؤذِن بقرب قيام الساعة، كما حذَّر من ذلك النبي ﷺ فقال: ((إن من أشراط الساعة: أن يُرفع العلم، ويثبت الجهل، ويشرب الخمر، ويظهر الزنا))[2].

ومن أجل ذلك أخذ الله الميثاق من الذين أوتوا الكتاب أن يبيِّنوا الكتاب للناس ويُعلِنوه ولا يكتموه، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ﴾ [آل عمران: 187]، وجاء الوعيد لمن يكتم العلم ولا يبيِّنه للناس، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة: 159].

لذا رفع الإسلام من قيمة العلم والعلماء؛ فجعل من العلماء ورثة للأنبياء، فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - ﷺ  - يقول: ((إن العلماءَ ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر))[3].

ولم يتوقَّف العلم على رفعة البشر من الناس، بل وانتقل إلى الحيوانات، ألم ترَ أن القرآن قد أحلَّ لنا صيد الجوارح المعلَّمة دون صيد الجوارح غير المعلمة؟ قال تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [المائدة: 4].

قال الشوكاني (ت 1250هـ): "والمكلَّب: معلم الكلاب لكيفية الاصطياد، والأخص معلم الكلاب وإن كان معلم سائر الجوارح مثله؛ لأن الاصطياد بالكلاب هو الغالبُ، ولم يكتفِ بقوله: ﴿ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ ﴾ مع أن التكليب هو التعليم؛ لقصد التأكيد لما لا بدَّ منه من التعليم، وقيل: إن السبع يسمَّى كلبًا، فيدخل كلُّ سبع يُصاد به، وقيل: إن هذه الآية خاصة بالكلاب"[4].

لذا أمَر الله النبيَّ ﷺ بأن يدعوه ويطلب الزيادة من العلم، فقال تعالى: ﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ [طه: 114]، وذكر بعضهم أنه ﷺ ما أُمر بطلب الزيادة من شيء سوى العلم.

وعلق النبي ﷺ الخيريَّة على العلم والفقه في الدين، فقال: ((مَن يرد الله به خيرًا يفقِّهْه في الدين، وإنما أنا قاسمٌ، والله يعطي))[5].

وجعل النبي ﷺ تمنِّيَ العلم والتنافس فيه أمرًا شرعيًّا، فقال ((لا حسدَ إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا فسُلِّط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها))[6].

طريق العلم:
1- طريق العلم هو طريقٌ نهايتُه الجنة:
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهل الله له طريقًا إلى الجنة))[7].

قال الطيبي: إنما أطلق الطريق والعلم ليشملا في جنسهما أيَّ طريق كان من مفارقة الأوطان، والضرب في البلدان، إلى غير ذلك، وأي علم كان من علوم الدين، قليلًا كان أو كثيرًا.

2- ويحصل لسالك طريق العلم أربع نفحات ربانية:
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسر، يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا، ستره الله في الدنيا والآخرة، واللهُ في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتابَ الله، ويتدارسونه بينهم - إلا نزلت عليهم السكينة، وغَشِيتهم الرحمة، وحفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطَّأ به عملُه، لم يُسرِع به نسَبُه))[8].

3- طالب العلم في علاقة مفتوحة مع الكون، فيدْعو له من في السموات والأرض:
عن قيس بن كثير قال: قدم رجل من المدينة إلى أبي الدرداء، وهو بدمشق، فقال: ما أقدمَك أيْ أخي؟ قال: حديثٌ بلغني أنك تُحدِّث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أما قدمت لتجارةٍ؟ قال: لا، قال: أمَا قدمت لحاجة؟ قال: لا، قال: ما قدمتُ إلا في طلب هذا الحديث؟ قال: نعم، قال: فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: ((مَن سلك طريقًا يطلب فيه علمًا، سلك الله به طريقًا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضًا لطالب العلم، وإنه ليستغفر للعالم مَن في السموات والأرض، حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضلِ القمر على سائر الكواكب، إن العلماءَ هم ورثة الأنبياء، لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورَّثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر))[9].

وعن أبي أمامة الباهلي قال: ذُكر لرسول الله ﷺ رجلان أحدهما عابد والآخر عالم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم))، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله وملائكته وأهل السموات والأرَضين، حتى النملة في جُحرها وحتى الحوت - لَيُصلُّون على معلِّم الناس الخير))[10].

4- طريق العلم طريق جهاد:
عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ((مَن جاء مسجدي هذا، لم يأتِه إلا لخير يتعلَّمه أو يعلِّمه، فهو بمنزلة المجاهد في سبيل الله، ومن جاء لغير ذلك، فهو بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع غيره))[11].
 قال السندي (ت 1138هـ): "أراد مسجده، وتخصيصه بالذكر إما لخصوص هذا الحكم به، أو لأنه كان محلًّا للكلام حينئذٍ، وحكم سائر المساجد كحكمه ... ووجه مشابهة طلب العلم بالمجاهد في سبيل الله أنه إحياء للدين، وإذلالٌ للشيطان، وإتعاب للنفس، وكسر ذرى اللذة، كيف وقد أبيح له التخلُّف عن الجهاد فقال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ... ﴾ [التوبة: 122]؟

قوله: ((ومن جاءه لغير ذلك))؛ أي: ممن لم يأتِ الصلاة كما تقدم.
قوله: ((فهو بمنزلة ... إلخ))؛ أي: بمنزلة من دخل السوق لا يبيع ولا يشتري، بل لينظر إلى أمتعة الناس، فهل يحصل له بذلك فائدة؟ فكذلك هذا"[12]..
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: (مَن رأى الغدو والرَّواح إلى العلم ليس بجهادٍ، فقد نقص عقله ورأيه).
وقال الحسن البصري: يوزن مدادُ العلماء بدماء الشهداء، فيرجح مداد العلماء.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.



[1] رواه الترمذي (رقم: 2322) وقال: هذا حديث حسن غريب. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((الدنيا ملعونة)): أي مطرودة مبعودة عن الله.
[2] رواه البخاري عن أنس بن مالك (باب: رفع العلم وظهور الجهل - رقم: 80).
[3] رواه الترمذي (باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة - رقم: 2682).
[4] الشوكاني - فتح القدير - دار ابن كثير، دار الكلم الطيب - دمشق، بيروت - ط الأولى - 1414 هـ - جـ 2 - ص 16.
[5] رواه البخاري (باب: من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين - رقم: 71). قال د. مصطفى البغا: (يفقهه) يجعله فقيهًا، والفقه الفهم. (أنا قاسم) أقسم بينكم ما أمرت بتبليغه من الوحي، ولا أخص به أحدًا دون أحد. (والله يعطي) كل واحد منكم فهمًا على قدر ما تعلقت به إرادته سبحانه.
[6] رواه البخاري (باب الاغتباط في العلم والحكمة - رقم: 73). قال البغا: (لا حسد) المراد حسد الغبطة، وهو أن يرى النعمة في غيره فيتمناها لنفسه من غير أن تزول عن صاحبها، وهو جائز ومحمود. (فسلط على هلكته في الحق) تغلَّب على شح نفسه وأنفقه في وجوه الخير. (الحكمة) العلم الذي يمنع من الجهل ويزجر عن القبيح.
[7] رواه الترمذي (باب فضل طلب العلم - رقم: 2646) وقال: هذا حديث حسن.
[8] رواه مسلم (باب: فضل الاجتماع على تلاوة القرآن - رقم: 2699). السكينة: أي: طمأنينة القلب، وانشراح الصدر.
[9] رواه أحمد بإسناد حسن لغيره (رقم: 21715). (لتضع أجنحتها) يحتمل أن يكون على حقيقته وإن لم يُشاهَد؛ أي: تكف أجنحتها عن الطيران وتنزل لسماع العلم، وأن يكون مجازًا عن التواضع؛ تعظيمًا لحقه ومحبة للعلم.
[10] رواه الترمذي (باب: ما جاء في فضل الفقه على العبادة - رقم: 2685) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب.
[11] رواه ابن ماجه (باب: فضل العلماء والحث على طلب العلم - رقم: 227)، قال المحقق محمد فؤاد عبدالباقي: في الزوائد إسناده صحيح على شرط مسلم.
[12] السندي- حاشية السندي على سنن ابن ماجه - دار الجيل - بيروت، بدون طبعة - حـ 1 - ص 100، 101.


ليست هناك تعليقات:

بحث في الموقع :

تابعنا :


الأسئلة:

قناة التلجرام

مشاركة مميزة

معاشر المحبين، الحب دين!

اقرأ المقال على شبكة الألوكة   لا نجد في قاموس البشرية كلمةً أجمَعَ الناس عليها غير هذه الكلمة   (الحب)؛ فهي كلمة تشتاق لها القلوب، ...

المشاركات الشائعة

منصة بصيرة للتعليم الشرعي المفتوح