معاشر المحبين، الحب دين!

. . ليست هناك تعليقات:

 
لا نجد في قاموس البشرية كلمةً أجمَعَ الناس عليها غير هذه الكلمة  (الحب)؛ فهي كلمة تشتاق لها القلوب، وتَشْرئِبُّ لها الأعناق، وتهفو إليها النفوس، وتطرَبُ لها الآذان، ورغم أنها كلمة لا تتجاوز الحرفين فإن لها من السحر والجلال في قلوب الناس ما لا تُحدِثُه أحرف أخرى!

ولكن للأسفِ الشديدِ حملتْ هذه الكلمة - زورًا وبهتانًا - أمورًا ليست لها أيُّ عَلاقة بها؛ الأمر الذي جعَل مِن (الحبِّ) أمرًا غيرَ إسلامي!

وإذا ما ذُكرتْ كلمة (الحب) في الإسلام، لا يُفهَمُ منها إلا حبُّ الله ورسوله ﷺ - وهو بالطبع أعظم أنواع الحب على الإطلاق وأسماه، وأن (حب) الرجل للمرأة و(حب) المرأة للرجل في نظر الكثيرين: أمرٌ غير موجود في الإسلام!

والحقيقة التي تَغيبُ عن أذهان الكثيرين هي أن الإسلام قد جعل طريقين للحب، طريق محرم لا يَحصُدُ أصحابُه إلا الخزيَ والخِذلان والعار، وطريق آخر شرعي إسلامي، فصَّل فيه الإسلامُ تفصيلاً من (الألف) إلى (الياء)!

فجعل الإسلام فقهًا لمبتدأ (الحب) حينما يصير (وعدًا)، ألا وهو فقه (الخطبة).
ثم فقهًا للحبِّ حين يصير (عقدًا)، وهو فقه الزواج.
 ثم آداب العشرة التي تَخِيطُ من الحب "جنة" ﴿ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ﴾ [الروم: 21].
وجعل من ثمرة هذا الحب "زينةً" في الحياة الدنيا ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [الكهف: 46].
ثم جعل مخرجًا إذا ضاع الحبُّ، واستحالت العشرة؛ فكان فقهُ الطلاق والخلع في الإسلام.

فالإسلام جعل من (الزواج) بدايةَ الحب وبُنيانه، أما أصحاب الهوى فقد صوَّروا لنا أن (الزواج)  نهايةُ الحب ومقبرتُه!
وأفهمونا أن الحب لا يكون إلا (مشاعر) محرمة، أو شهوة عابرة آثمة!
 وقد ذكر بعض الأدباء تعليقًا طريفًا لحكم رجم الزاني والزانية - ما داما محصنَيْنِ - فقال:
 إن مَن هدَم بيت الزوجيَّة بزناه، أو مَن هدمتْ بيت الزوجية بزناها - ينبغي أن تَنْتقِمَ أحجارُ البيت كلُّها من جِلدهم ومن بدنهم؛ حتى يتعلَّموا كيف يصونون البيت!

لذا؛ جعل الإسلام من حسن الحب والعشرة دليلاً على خيرية الإنسان وصلاحه؛ فقال النبي ﷺ :((خيركم خيرُكم لأهله، وأنا خيرُكم لأهلي))[1].

وحينما نُطالِعُ سيرةَ سيد المحبِّين ﷺ نجد الأخبار تأتينا من داخل البيت النبوي، حَفلت بها كتبُ الصِّحاح عن أحوال المحب ﷺ مع زوجاته رضي الله عنهن.

فحينما غارت أم المؤمنين (عائشة) من السيدة (خديجة) رضي الله عنهما - رغم أنها قد ماتت قبل أن تتزوج من النبي ﷺ - قال لها ﷺ بلسان المحبِّ الذي لا ينسى محبوبتَه - رغم وفاتها -: ((إني قد رُزِقْتُ حبَّها!))[2]
وقِفْ قليلاً - أو كثيرًا - عند كلمة (رُزِقْتُ)؛ فالحبُّ رِزْق، والرزق يُطلَبُ، ويُدعى به!

وعلمنا رسول الله ﷺ أن التصريح بالحب أمرٌ لا عيب فيه ولا حرج!
فحينما سأله عمرو بن العاص رضي الله عنه: أيُّ الناس أحبُّ إليك؟
قال ﷺ - ببساطة شديدة -: ((عائشةُ))، فقال عمرو: مِن الرجال؟ فقال: ((أبوها))[3]
ولم يقل ﷺ :أبو بكر، بل نسب حبَّه للصدِّيق من جهتها؛ وكأن كلَّ طرق الحب تُؤدِّي إليها!

بل وحتى اللغة التي لا يَفهمُها إلا المحبُّون: النظرات، والهمسات، والإيماءات - حُفظَتْ عن سيد المحبين ﷺ ؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله ﷺ : ))إني لأعلم إذا كنت عني راضيةً، وإذا كنت عليَّ غَضْبَى!((، قالت: فقلت: من أين تعرف ذلك؟!
فقال: (( أما إذا كنت عني راضيةً، فإنك تقولين: لا وربِّ محمدٍ، وإذا كنت عليَّ غَضْبى، قلتِ: لا وربِّ إبراهيم!)) قالت: قلت: أجل، والله يا رسول الله، ما أهجُرُ إلا اسمَك[4].

وإذا كان من شأن المحبِّ محبة (تَتَبع) أثر محبوبتِه حتى في موضع الطعام والشراب، فقد نُقِل أيضًا ذلك عن النبي ﷺ ؛ فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله ﷺ ليُؤتَى بالإناء فأشرب منه - وأنا حائض - ثم يأخذُه فيضع فاه على موضع فيَّ، وإن كنت لآخذ العَرْقَ - وهو العظم الذي فيه شيء من اللحم - فآكل منه، ثم يأخذه فيضعُ فاه على موضع فيَّ"[5].

بل ورغَّب النبي ﷺ في إطعام الزوجة، ووضع اللقمة في فمها! وجعل ذلك بمثابة صدقة يتصدَّقُ بها الإنسان عن نفسه، فقال: ((وإنك مهما أنفقتَ من نفقة، فإنها صدقة، حتى اللقمة التي ترفعُها إلى فِي امرأتِك))[6].

وحينما تستدعي صورةَ المحبِّ الذي يُساعد محبوبتَه في كل شيء - حتى في الأمور المنزلية - تجدها عند النبي ﷺ ؛ فقد سئلت عائشة رضي الله عنها: ما كان النبي ﷺ يصنَعُ في بيته؟ فقالت: " كان يكون في مهنة أهله - تعني: خدمة أهله - فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة"[7].

وفي مسند الإمام أحمد عن عائشة: أنها سُئِلت: ما كان رسول الله ﷺ يعمل في بيته؟ قالت: "كان يَخِيطُ ثوبَه، ويَخصِفُ نعلَه، ويعمل ما يَعمَلُ الرجالُ في بيوتهم"[8].

وحتى ما يكون بين الزوجين من تنزُّهٍ ومرحٍ، ورَدَ ذلك عن النبي ﷺ ؛ ففي صحيح البخاري: "كان النبي ﷺ إذا كان بالليل سار مع عائشة يتحدَّثُ"[9].

وعنها رضي الله عنها: أنها كانت مع النبي ﷺ في سَفَرٍ، قالت: "فسابقتُه فسَبَقْتُه على رِجلي، فلما حمَلْتُ اللَّحْمَ - أي: سَمِنْتُ - سابقتُه فسَبَقَني فقال: ((هذه بتلك السبقة))[10].

ولا يَقتصِرُ وفاءُ المحبِّ لمحبوبته (الزوج لزوجته) على فترة حياتها فقط، ولكن يمتدُّ لما بعد وفاتها؛ فعن عائشة قالت: كان النبي ﷺ إذا ذكر خديجة أثنى عليها، فأحسن الثناء، قالت: فغِرْتُ يومًا، فقلت: ما أكثرَ ما تذكرُها! حمراءُ الشِّدْق[11]، قد أبدَلَك الله عز وجل بها خيرًا منها! قال: ((ما أبدلَني اللهُ عز وجل خيرًا منها، قد آمنَتْ بي إذ كفر بي الناس، وصدقتْني إذ كذَّبني الناس، وواستْني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله عز وجل ولدَها إذ حرمني أولادَ النساء))[12].

بل ووصل الوفاء إلى صلةِ مَن كان يَصِلُ زوجته، حتى بعد وفاتها؛ ففي مستدرك الحاكم عن عائشة، قالت: جاءت عجوز إلى النبي ﷺ وهو عندي، فقال لها رسول الله ﷺ :((من أنتِ؟))، قالت: أنا جثامة المزنية، فقال: ((بل أنت حسَّانة المزنية، كيف أنتم؟ كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدَنا؟))، قالت: بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله.

فلما خرجت، قلت: يا رسول الله، تُقبِلُ على هذه العجوز هذا الإقبال؟! فقال: ((إنها كانت تأتينا زمنَ خديجة، وإن حسنَ العهد من الإيمان))[13].

وعنها - أيضًا - قالت: كان رسول الله ﷺ إذا ذبح الشاة فيقول: ((أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة))[14].

رأى المجنون في البيداء كلبًا  ***  فمدَّ له من الإحسان ذيلاَ
فلاموه على ما كان منه وقالوا:*** لِمْ مَنَحْتَ الكلب نيلا؟
فقال: دعُوا الملامة؛ إن عيني *** رأته مرة في حيِّ ليلى

ولكن للأسف الشديد هذه الصورة المشرقة (للحبِّ) ضاعتْ ملامحُها، حتى بين الصالحين والصالحات، فصاروا لا يعرفون إلا (العبوس) و(القنوط) و)السآمة(، ولا يعرف الضحك إلى وجههم سبيلاً!
وصارت العبادة لصيقة بـ (الكآبة)!
ولن نجيبَهم إلا بالحديث الذي رواه أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ :
((رَحِم الله رجلاً قام من الليل فصلَّى وأيقظ امرأته، فإن أبتْ نضح في وجهها الماء، رحم اللهُ امرأة قامت من الليل فصلَّت وأيقظتْ زوجَها، فإن أبى نضحَتْ في وجهه الماء(([15]..

معاشر المحبين، الحب دين!
والله يقولُ الحقَّ وهو يهدي السبيل.

________________________________________
 [1] رواه الترمذي عن عائشة (3895/ باب في فضل أزواج النبي ﷺ).
[2]  الحديث بتمامه: عن عائشة، قالت: ما غرت على نساء النبي ﷺ ، إلا على خديجة، وإني لم أدركها، قالت: وكان رسول الله ﷺ إذا ذبح الشاة، فيقول: ((أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة))، قالت: فأغضبته يومًا، فقلت: خديجة، فقال رسول الله ﷺ :((إني قد رُزِقْتُ حبها))؛ [رواه مسلم: 2435/ باب فضائل خديجة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها].
[3]  رواه البخاري (3662 / باب قول النبي ﷺ :لو كنت متخذًا خليلًا).
 [4] رواه البخاري (5228 / باب غيرة النساء ووجدهن).
 [5] رواه مسلم (300 / باب سؤر الحائض).
 [6] رواه البخاري (6733 / كتاب الفرائض).
 [7] رواه البخاري (676 / باب: من كان في حاجة أهله فأقيمت الصلاة فخرج).
 [8] رواه أحمد (24903 / مسند الصِّدِّيقة عائشة بنت الصِّدِّيق رضي الله عنها).
[9]  رواه البخاري (5211 / باب القرعة بين النساء إذا أراد سفرًا).
 [10] رواه أبو داود (2578 / باب في السبق على الرجل).
[11]  أي: لا يوجد أسنان، ولا يوجد في فمها غير لثة حمراء، وباطن الفم أحمر.
 [12] رواه أحمد (24864 / مسند الصِّدِّيقة عائشة بنت الصِّدِّيق رضي الله عنها).
 [13] رواه الحاكم وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (216).
 [14] تقدم تخريجه.
[15]  رواه أبو داود (1308 / باب قيام الليل).

ليست هناك تعليقات:

بحث في الموقع :

تابعنا :


الأسئلة:

قناة التلجرام

مشاركة مميزة

معاشر المحبين، الحب دين!

اقرأ المقال على شبكة الألوكة   لا نجد في قاموس البشرية كلمةً أجمَعَ الناس عليها غير هذه الكلمة   (الحب)؛ فهي كلمة تشتاق لها القلوب، ...

المشاركات الشائعة

منصة بصيرة للتعليم الشرعي المفتوح